التّحرّر من الاستعمار : بين إخفاق البرجوازيّة الوطنيّة و ضرورة التّخطيط

سعيد موايسي (مؤلف)
17 – 40
عدد متنوع
ع. 107 — م. 29 — 30/06/2025

يروم هذا المقال استقصاء مدى نجاعة النّظريّة الفانونيّة حول الاستقلال وما بعده في البلدان الفتيّة، ويبحث في مدى تحقّق المزالق التي حذّرنا فانون منها على أرض هذه البلدان، وذلك انطلاقا من معالجة الإخفاق الذي أوقعت فيه البرجوازيّة الوطنيّة نفسها فيه، ومرورا بالانحراف الذي شهده المثقفون والزّعماء السياسيون عن المسار اللّازم اتّباعه، ووصولا إلى تخلّي الأحزاب السياسيّة عن مبادئها، ممّا جعل ذلك كلّه ينذر بتشويه المعالم الحقيقيّة التي أرستها الحركات التّحرّريّة.

وبما أنّ فانون لم يعش استقلال الجزائر، فإنّنا سنلجأ إلى اثنين من كبار مفكّري الاتّحاد المغاربيّ؛ مالك بن نبيّ وعبد الله العروي، من أجل أن نرى كيفيّة توصيفهما للاستقلال، ومن أجل أن نعقد قرانا بينهما وبين فرانز فانون.

إخفاق البرجوازيّة الوطنيّة ووهم الوحدة الإفريقيّة

لقد تحدّث فرانز فانون بنوع من الحماسة الشّديدة عن تضامن الشّعوب الإفريقيّة فيما بينها، وضرورة وقوفها في صفّ واحد ضدّ الاستغلال الاستعماريّ بنوعيه القديم والجديد، وذلك ضمن أُطر قوميّة إفريقيّة قائمة على أساسٍ من الأخوّة بين شعوب إفريقيا والتّنسيق فيما بينها سياسيّا واقتصاديّا وعسكريّا. وقد كتب فرانز فانون في ذلك عدّة مقالات نُشرت في "من أجل الثّورة الإفريقيّة"، إلّا أنّ النّصّ الذي يضمّ مجموع أفكاره حول الوحدة القوميّة والدّور المنوط بالبرجوازيّة الوطنيّة في تحقيقها هو "مزالق الشّعور القوميّ" ضمن كتاب "معذّبو الأرض".

مزالق الشّعور القوميّ عند فانون

ويتحدّث هذا النّصّ (فانون، 2015، ص. 124-163) عن المرحلة الانتقاليّة التي شهدتها الدّول الإفريقيّة حال استقلالها، وهذه المرحلة تعتَبر فصلة بين ما يفتَرض أنّه سُطّر كأهداف وبين ما وجدت هذه الدّول حالها عليه. "وتشهد هذه المرحلة عادة -كما يقول فؤاد خليل- أزمة في البُنى الاجتماعيّة هي أزمة التّناقض الموضوعيّ بين القديم والجديد، ومن رحم هذا التّناقض تولّدت ديناميات التّمزّق والتّجزئة في المجتمع" (خليل، 2010، ص. 193). ذلك أنّ الذي أخرج هذه الأزمات إلى الوجود يتمثّل في أنّ الثّورة عندما قامت، فإنّها لم تكن منذ البداية على مستوى قوميّ، وإنّما كان جلّ اهتمامها تصفيةَ الاستعمار والحصول على كلّ الحقوق التي كانت في فلك الممنوع بالنّسبة للمستعمَرين، وبذلك فإنّ أوّل مشكل سيصادف الدّولة المستقلّة هو ضعف الوعيّ القوميّ، وسترتبط به عدّة مزالقَ أخرى ستكون البرجوازيّة الوطنيّة سببا في إخراجها إلى الوجود بشكل أو بآخر، وسنعرض لهذه المزالق في هذا المبحث واحدا بعد واحدٍ.

لقد أصرّ فانون على مزيّة أن يكون انطلاق العمل التّحرّريّ والثّورة الاجتماعيّة موحّدا، ومعنى ذلك أنّه رفض أن تتمّ الاستعانة بالبرجوازيّة أوّلا في العمل التّحرّريّ، وإذا ما حدث نجاح للعمل الثّوريّ فإنّه يتوجّب القيام بعد ذلك بثورة اجتماعيّة ضدّ هذه البرجوازيّة. والذي حدث في الجزائر هو أنّ انطلاقة العمل التّحرّريّ والثّورة الاجتماعيّة كان موحّدا، وكان من المفروض أنّ الاستقلال لن يأتيَ بمشاكلَ فيما يخصّ العلاقة بين البرجوازيّة الوطنيّة وطبقة العمّال والفلّاحين، ولكنّ الذي حدث هو أنّ بعض المناطق قد شهدت صراعا عنيفا بين المستعمِر والمستعمَر بينما لم تشهد مناطقُ أخرى صراعا مماثلا، وبالتّالي، وكنتيجة لذلك، لم يحدث -كما كان مفترضا- ذلك الانغماس الفعليّ بين طبقة الفلّاحين والطّبقة البرجوازيّة والنّخب المثقَّفة، أضف إلى ذلك أنّ عددا كبيرا من الثّوريين حقّا والذين انشقّوا عن الحزب السّياسيّ وانغمسوا
في الشّعب؛ كانوا قد استشهدوا قبل حصول الاستقلال، وخلَف هؤلاء جماعة أخرى هي أقلّ تشبّعا من الفئة السّابقة بالمبادئ الثّوريّة والقوميّة وأقلّ انغماسا في الشّعب منها، ثمّ جاء الاستقلال حاملا معه كلّ هذه المعطيات.

والذي جرى فعلا بمجرّد الاستقلال أنّه حدث استبدال طبقيّ -كما يسمّيه مهدي عامل- بين البرجوازيّة الكولونياليّة والبرجوازيّة الوطنيّة التي حلّت محلّها والتي أطلق عليها تسمية البرجوازيّة الوطنيّة (عامل، 2013)، وهذه البرجوازيّة هي التي ستدمّر أهمّ منجزات الثّورة على الصّعيد الاقتصاديّ والاجتماعيّ والقوميّ، وذلك لتميّزها بطابعين: الأوّل أنّها ليست برجوازيّة بالمعنى الحقيقيّ، بل هي برجوازيّة تجاريّة فقط، والثّاني أنّها عنصريّة كذلك. ويتميّز الطّابع الثّاني عن الأوّل كونه ناتجا عنه، أمّا الأوّل فيتميّز بكونه اختيارا قامت به البرجوازيّة
في الحين الذي كانت فيه بين أيديها اختيارات أخرى متاحة؛ تحول دون حدوث الطّابع الثّاني الذي يعتبره فرانز فانون بذرة تصدّع المسعى القوميّ الإفريقيّ.

ويعود اختلاف البرجوازيّة الوطنيّة عن البرجوازيّة الرّأسماليّة إلى أنّ البرجوازيّة الوطنيّة نشأت في إطار علاقات الإنتاج التي كانت سائدة عند سابقتها البرجوازيّة الكولونياليّة، وبما أنّ هذه الأخيرة كانت تقوم بدور وساطيّ بينها وبين الدّول الرّأسماليّة بأن توفّر لها الموادّ الأوّليّة مقابل مبالغ ماليّة تحتفظ بها في البنوك الأوروبيّة طبعا، فإنّ دور البرجوازيّة الوطنيّة لن يختلف عن ذلك بحكم أنّها مستَخلَفة عنها.

وإذا جاز لنا أن نتعمّق في الموضوع، فإنّه من الواجب البحث في الأسباب التي جعلت البرجوازيّة الوطنيّة تنتهج هذا النّهج دون أن تتكبّد مشقّة البحث عن غيره من المناهج، ذلك أنّ الأمر بسيط للغاية، فقد عمدت هذه البرجوازيّة إلى اختيار أحد الطّريقين؛ فإمّا أن تهدف إلى الإبقاء على علاقة تبعيّتها البنيويّة للإمبرياليّة، بأن تحافظ على علاقات الإنتاج التي كانت عند البرجوازيّة الكولونياليّة، وهو عين ما فعلته، وإمّا أن تهدف إلى قطع هذه العلاقة من خلال تحويل علاقات الإنتاج السّابقة إلى نمط ملائم للبلد المستقلّ مبنيّ على أساس من التّخطيط الاقتصاديّ الفعّال، وهو عين ما لم تفعله.

ولا يكون هذا النّمط اشتراكيّا بالضّرورة كما يرى مهدي عامل، فقد يكون نمطا آخر حاول العديد من المفكّرين توصيفه على غرار مالك بن نبي وعبد الله العرويّ اللّذين سنعود إليهما لاحقا في معرض حديثنا عن التخطيط، أمّا الآن فسنبقى مع مهدي عامل الذي حاول أن يبيّن أصل نشأة البرجوازيّة العربيّة، إذ يرى أنّه لم يكن من الممكن إطلاقا للبرجوازيّة الوطنيّة أن تتخذ شكل البرجوازيّة الرّأسماليّة التي صاحب نشوؤَها شروطٌ تاريخيّة محدّدة، ولذلك فإنّها اتّخذت كضرورة ملحّة شكلا آخر متميّزا هو الشّكل الكولونياليّ؛ أي شكل الارتباط التّبعيّ بمنطق التّطوّر الإمبريالي للرأسماليّة الأوروبيّة (عامل، 2013، ص. 323). ومعنى ذلك أنّ قيام البرجوازيّة الوطنيّة كان تاليّا زمنيّا للعنف الاستعماريّ الذي أزاح الاستعمار من التّواجد مكانيّا في البلاد المستقلّة، ولكنّ هذا العنف لم يُزل عناصر البيئة الاقتصاديّة والاجتماعيّة الكولونياليّة، وإنّما حافظ عليها. والذي حدث هو أنّ فئة متخلّفة -كما يصفها فرانز فانون- حلّت مكان البرجوازيّة الكولونياليّة وواصلت عملها وفق النّمط ذاته.

وتتميّز البرجوازيّة الوطنيّة بعجزها، ذلك أنّها لا تملك وسائل الإنتاج التي ترفعها إلى مستوى البرجوازيّة الحقّة، ولا تملك مخطّطا اقتصاديّا من أجل بعث اقتصاد البلاد، ولا تملك مقدارا من الصّداقة من أجل إنكار نفسها كبرجوازيّة، ومن ثمّ الشّروع في استثمار رأس المال الثّوريّ الذي هو الشّعب. ولا عجب إذا رأيناها تُقصي الشّعب من مخطّطاتها، ذلك أنّها لم تكن يوما مرتبطة به، بل هي في تعالٍ دائم عنه.

والخطأ الذي جرّنا إلى ذلك هو أنّ العمل التّحرّريّ قد أغفل أيّ اعتبار للنّظام الاقتصاديّ الاجتماعيّ الذي ستسير عليه البلاد بعد استقلالها، وكأنّ الاقتصاد شيء منفصل تماما عن التّحرّر من الاستعمار أو لاحقٌ له، وليس مصاحبا له. ويقال الكلام نفسه عن النّظام الاجتماعيّ، ذلك أنّ عجز البرجوازيّة الوطنيّة في المُضيّ بالبلاد قُدما اقتصاديّا سيجعلها تقترف مزالق عديدة تضرب النّظام الاجتماعيّ وتهدّد أسسه، وتهدّد بنسف مشروع الوحدة القوميّة الإفريقيّة، وذلك في إطار ما يسمّيه مهدي عامل قيام البرجوازيّة الوطنيّة "بالتّمثّل بالبرجوازيّة الإمبرياليّة على أساس العجز عن التّماثل بها" (عامل، 2013). غير أنّه من غير المؤكّد الاعتماد على كلّ النتائج التي توصّل إليها مهدي عامل في إطار دراسته لأزمة الحضارة العربيّة أو لأثر الفكر الاشتراكيّ
في حركات التّحرّر الوطنيّ، ذلك أنّ دراسته قائمة على البلدان العربيّة التي كانت فيها البرجوازيّة العربيّة في قيادة حركة التّحرّر الوطنيّ من الإمبرياليّة على غرار مصر ولبنان اللّذين خصّهما بدراسة مفردة، أمّا بقيّة الدّوّل التي شهدت تحرّرا من نوع آخر فلم يتطرّق إليها كالجزائر التي عمل فيها مدرّسا لمادة الفلسفة بدار المعلّمين بقسنطينة، وكان حريّا به الإشارة إلى أنّ هناك دولا خاضت فيها الصّراعَ الوطنيَّ طبقاتٌ أخرى غير الطّبقة البرجوازيّة.

وفي ظلّ الظّروف المصاحبة لنشأة البرجوازيّة الوطنيّة نجد معظم نشاطها متّجها نحو القيام بأعمال وساطة من جهة، ونقل الامتيازات الموروثة من العهد الاستعماريّ إلى صفّها من جهة أخرى، وهي في هذا كلّه لا تُبدي محاولة واحدة كي تخلق اقتصادا قويّا للبلاد المستقلّة، وذلك راجع إلى أنّ تفكيرها كلَّه منصبٌ على تحصيل الحقوق التي كانت محرومة منها، وأمّا الواجبات التي ينبغي عليها القيام بها فهي تعتبر نفسها في غِنىً عن التّفكير فيها.

ونجد عند مالك بن نبيّ حديثا مماثلا لحديث فانون، إذ يرى أنّ المشكل الذي حدث غداة الاستقلال، هو أنّ الطّامعين في السّلطة تواجهوا في شوارع العاصمة الجزائريّة برصاص رشّاشاتهم، ولولا حكمة الشّعب لتحوّل الفرح قَرْحا (بن نبي، 2015، ص. 30). ويقترح بن نبي من أجل تجاوز ما يسمّيه مشكلة الحضارة غداة الاستقلال بأنّه ينبغي على كلّ زعيم أن ينظر إلى الاستقلال من زاوية الواجبات توضع على عاهل كلّ فرد بدلا من نظرته إليه من زاوية الحقوق يمنحها إليه، وسيعدّل الزّعيم تبعا لذلك تلقائيّا أطماعه في السّلطة
(بن نبي، بين الرّشاد والتّيه، 2015، ص. 33). وكنتيجة لذلك، يضيق مجال مناورات الاستعمار لأنّها تصبح غير ممكنة في نفوس محصّنة بعيدة عن الهوى والغرور.

إلّا أنّ المظاهر العديدة التي ذكرها فانون تدلّ على أنّ تفكير البرجوازيّة الوطنيّة هو تفكير من ناحية الحقوق فقط، ولذلك فإنّنا نجدها لا تأتي بجديد سواء فيما يخصّ استثمار الموارد المحلّيّة، أو في حضّها على الإنتاج الزّراعيّ كاسترجاع الأراضي الريفيّة الفلاحيّة من أجل تقديم المحاصيل الخام للدّول المصنِّعة، أو في تقديسها للحرف الوطنيّة لعجزها عن خلق طرق اقتصاديّة جديدة. ونجدها إضافة إلى ذلك تلعب دور وكيلٍ للبرجوازيّة الغربيّة لأنّها تفرض على كلّ شاردة وواردة أن تمرّ بواسطتها. وكلّ هذه الأمور جعلت البرجوازيّة الوطنيّة، وهي في أوّل عهد لها، تتشبّه بالبرجوازيّة الكولونياليّة في آخر عهد لها. وهذا راجع إلى أنّ تكوّن هذه البرجوازيّة لم يكن وليد صراع طبقيّ بينها وبين طبقة عمّاليّة، وإنّما جاء في إطار الحفاظ على علاقات الإنتاج التي كانت قائمة زمن الاستعمار.

ويحذّر فانون البلدان الإفريقيّة من الوقوع في ذلك المشهد المحزن الذي وقعت فيه جمهوريات أمريكا اللّاتينيّة، وذلك في معرض حديثه عن لجوء البرجوازيّة الوطنيّة إلى إنشاء مراكز سياحيّة تكون قبلة للمستعمِر السّابق يأتي إليها من أجل الاستجمام والرّاحة، ويؤكّد فانون هنا على عدم الاعتماد على السّياحة كمورد اقتصاديّ، ذلك أنّها ستجعل البرجوازيّة الوطنيّة متعهّد تنظيم حفلات للبرجوازيّة الغربيّة، ويستشهد على ذلك بما يحدث في عواصم أمريكا اللّاتينيّة التي تحوّلت كلّها إلى ملاهٍ ومراكز فساد وانحلال خلُقيّ.

ومن أهمّ ما يميّز البرجوازيّة الوطنيّة هو كنز المال والبحث عن أرباح مضمونة، فلا نجدها تقوم بوضع أيّ مخطّط اقتصاديّ، بل تسعى دائما
إلى إبقاء الأحوال على ما هي عليه. ومن أجل أن تبيّن تفوّقها الشّكليّ ومدى انفصالها عن الشّعب، فإنّها تلجأ إلى اقتناء الأشياء وحبّ الظّهور كاقتناء السّيارات الفارهة والقصور العالية.

الاستقلال من منظور مالك بن نبي وعبد الله العروي

وبصدد الحديث عن التّخطيط، وبما أنّ فانون لم يعش استقلال الجزائر، فإنّنا سنلجأ إلى مالك بن نبيّ كي نرى كيفيّة تعامل الجزائريين مع الاستقلال، إذ يرى هذا الأخير أنّه تمّ وضع خطّة من أجل بعث الاقتصاد الوطنيّ خاصّة في الميدان الزّراعيّ، وكان أن تمّ استصلاح مساحات واسعة خصّصت لزراعة الكروم، ولكنّ هذا القرار الحكيم في نظر بن نبي لم يكن نتاج جهاز تخطيطيّ شموليّ، وإنّما جاء تحت ضغط ظروف خارجيّة هي تقلّبات الأسعار، ذلك أنّ الخمر الذي أنتجته الجزائر آنذاك لم يجد من يشتريه في الخارج، فإذا به يعود ليسيل بغزارة في حلقوم الجزائريين (بن نبي، 2014، ص. 33).

وبالرّجوع إلى فانون، نجده يبيّن سلوكا آخر تقوم به البرجوازيّة الوطنيّة، فبعد أن أمّمت الأراضي الفلاحيّة في الأرياف، ها هي تنادي بفكرة تأميم الوظائف، وتساندها في ذلك تلك الفئة التي يُطلق عليه اسم أهل المهن الصّغيرة، وسينتج تبعا لعمليّة التّأميم هذه تعصّب قوميّ ينذر بتدمير الوحدة الإفريقيّة، فنجد أهل المهن الصّغيرة من جهة أولى في صراع ضدّ الأوروبيين من أجل الحصول على وظائفهم التي يشغلونها، ونجدهم من جهة ثانية في صراع ضدّ الأفارقة الآخرين من أجل الهدف نفسه، وسيتمّ تبعا لذلك طرد الأفارقة ومساواتهم بالأوروبيين في المصير نفسه بحجّة أنّهم ليسوا أبناء هذه الأمّة. وإذا وصلنا إلى النّقطة التي نجد فيها صراعا بين الإفريقيّ وأخيه، فإنّ حلم الوحدة الإفريقيّة الذي نادى إليه فانون ستتقوّض أساساته، وهناك أمثلة عديدة ذكرها فانون في كتابه للدّلالة على ذلك.

ويتّضح لنا جليّا من خلال هذا السّلوك أنّ البرجوازيّة الوطنيّة إذ تحاول المواراة عن عجزها وفشلها تخلق، دون أن تشعر، عنصريّة جديدة، ويجعلنا هذا نشهد انتقال العنصريّة من المستعمِر إلى البرجوازيّة وحلفائها أصحابِ المهن الصّغيرة، وسينجرّ عن ذلك إيقاظ الفتن القديمة والصّراعات القَبَليّة والمذابح التي تمّت باسم الدّين، وسنشهد تحطّم فكرة الوحدة الإفريقيّة تماما. إلّا أنّ الفارق بين عنصريّة المستعمِر السّابق وعنصريّة البرجوازيّة وحلفائها هو أنّ الأولى عنصريّة احتقار وإذلال واستغلال للآخر، بينما الثّانية عنصريّة دفاعيّة لأنّها قائمة على الخوف من ضياع مصالحها أو انكشاف حالها. ولكي يأتي أوان الوحدة الإفريقيّة ينبغي أن تنحلّ كلّ هذه التّناقضات وإن لا فلا.

وممّا ينبغي علينا التّنويه إليه في هذا المقام، هو أنّ الفئات التي رأى فانون أنّها غير جديرة بالعمل الثّوريّ التّحرّريّ ما لم تنضمّ إلى صفوف الفلّاحين والرّيفيّين، هي نفسها التي نجدها الآن تحيد بالقوميّة الإفريقيّة عن سبيلها، فالبرجوازيّة الوطنيّة وعمّال المدن والحرفيون كلّهم يميلون حيث تميل البرجوازيّة الوطنيّة، وهذا راجع كما قلنا إلى عدم تشرّبها القيم الأصيلة والمبادئ الثّوريّة التي شهدها العنف ضدّ المستعمِر، إلّا أنّ الأمر الأدهى من ذلك هو أنّنا نجد ثوريين سابقين حقّا يتحالفون مع هذه البرجوازيّة، فها هو الحزب الوطنيّ والزّعيم الثّوريّ يساندانها عندما تلجأ إليهم دون تردّد.

فنجد نظام الحزب الواحد، وهو الذي كان يوعي المواطنين سابقا بالحِيَل التي يستعملها المستعمِر من أجل التّفرقة والاستغلال، يسارع إلى تخويف الشّعب ونزع الثّقة من نفوسهم، فيلجأ إلى إفهامهم أنّهم في خطر دائم يحدق بهم، وذلك برأينا هو من باب ربط القضايا الوطنيّة أو تعليقها على مشجب الآخر، وليس الآخر سوى المستعمِر السّابق، وهذا الاستحضار الدّائم له في كلّ الخُطب التي يلقيها الحزب إنّما يتمّ بهدف التّخويف لا غير، إذ التّخويف خارجيّا يولّد النّظام داخليّا كما هو معلوم، ولذلك فلا نجد عند المواطن اهتماما بانتهاكات البرجوازيّة وتجاوزاتها، وإنّما نجده يتحدّث عن قضايا غير مرتبطة به أساسا، وفجأة نجد وعيه القوميّ في مستوى صفريّ، وذلك كلّه ناتج عن ممارسات البرجوازيّة الوطنيّة.

وينتج كخطوة تالية لذلك نزوع البرجوازيّة الوطنيّة إلى عقد صلات واتّفاقيّات اقتصاديّة مع المستعمِر السّابق، وذلك من أجل أن تضمن استمرار استغلاله لخيرات الوطن، فإذا ما فُضحت أعمالها نجدها تنزع إلى خيار آخر، وهو ضرورة إيجاد زعيم شعبيّ يكون ضامنا لاستمرار سيطرة البرجوازيّة. ونجد عند هذا الزّعيم تحوّرا هامّا بين ما كان يقوم به وبين ما عُهِد به إليه، فبعد أن كان شريفا وثوريّا حقّا، ها هو اليوم يفقد اتّصاله بالشّعب. ويرى الشّعب في الزّعيم تبعا لذلك خائنا لهم، ويردّ الزّعيم ردّا قاسيّا لأنّه بدأ يرى أنّ الجماهير شرعت تنكر جميله السّابق.

وتتأزّم أوضاع البلاد نتيجة ضعف الاقتصاد وهشاشة البنية الاجتماعيّة، ويتحوّل الاقتصاد الذي كان محميّا إلى اقتصاد موجَّه، ويطير رئيس البلاد إلى العواصم الأوروبيّة طالبا المال والمعونة، فيستجاب لطلبه بسرور وشروط أهمّها تقديم بعض التّنازلات والامتيازات لهذه العواصم، ويقبل الرئيس الشّروط، وإذا بالعواصم الأوروبيّة تعيد فرض سيطرتها شيئا فشيئا في استعمار جديد متوارٍ عمّن لا يريد إبصاره.

وتُطرح تبعا لذلك فكرة اللّجوء إلى العنف ضدّ هذه البرجوازيّة، ولكنّ الزّعيم يتدخّل من أجل القيام بمهمّتين: أن يوقف سير الشّعب ويهدّئهم من جهة، وأن يطوّر جهازي الشّرطة والجيش من جهة أخرى. وتصبح العلاقة الموجودة بين الشّعب والسّلطة في البلدان الإفريقيّة تبعا لذلك قائمة على التّضليل والقمع، والتّضليل سابق للقمع، وتستعمل فيه السّلطة كلّ أفيون من أجل أن يبقى الشّعب منهدم الوعي تماما، وتتّخذ من أجل ذلك سياسة انتقائيّة لما يخدم مسعاها حسب الظّروف، فتُلهي الشّعب بأمور عديدة من أجل منعه عن التّفكير في القضايا الوطنيّة والقوميّة، فتستغلّ الدّين والرّياضة والنّزاعات القَبَليّة والتّخويف الخارجيّ وتضليل الرأي العام وغيرها، فإذا ما عجزت سياستها التّضليليّة لجأت إلى القمع.

ويحدث للحزب الوطنيّ ما حدث للحزب الشّيوعيّ الذي تخلّى عن طبقة البروليتاريا والحوار معها، فبعد أن قام الحزب بمهمّته التّاريخيّة المتمثّلة في إيصال البرجوازيّة إلى الحكم نجده أصبح جثّة هامدة، وأصبحت تتنازعه تيّارات داخليّة تُؤذن بانحلاله، ونجده يفقد ثقة الشّعب الذي كان مساندا له في أحلك الظّروف لأنّه مشارك في هذه الخيانة بطريقة أو بأخرى.

ويقترح فانون، من أجل تفادي هذه المزالق التي شهدتها الدّول الإفريقيّة التي نالت استقلالها قبل الجزائر، أن يتمّ قطع الطّريق أمام هذه البرجوازيّة بمجرّد الاستقلال ونفي كلّ شروط وجودها وازدهارها. ذلك أنّ وجود برجوازيّة ما إنّما يكون بوجود قوّة اقتصاديّة كبيرة توازيها طبقة عمّاليّة كبيرة أيضا، وفي ظلّ الصّراع القائم بين البرجوازيّة والعمّال تتطوّر البلاد وتزدهر، وذلك من خلال تقوية هذا الاقتصاد أوّلا، ومن خلال القوانين التي تنظّم هذا الصّراع بين الطّرفين ضمن إطار الاقتصاد السّياسيّ ثانيّا. وأمّا أن نسمح بظهورها اسميّا فقط فهذا معناه أن نستحيل شيئا فشيئا إلى كاريكاتور عن أوروبا لا إلى نسخة عنها.

ويرى فانون أنّ في بلداننا كثيرا من المثقّفين والنّخب الصّادقة القادرة على التّخطيط الاقتصاديّ بعيدا عن هذه البرجوازيّة الضّعيفة، وينبغي أن تتوافر في هؤلاء حسب فانون ظروف خاصّة وتواريخ شخصيّة صاحبت نشأتهم وجعلتهم يشعرون باحتقار نحو هؤلاء المنتهزين ويكرهون سعيهم الحثيث إلى المراكز والغنائم. ويحثّ فانون هؤلاء على فضح هذه البرجوازيّة التي إن كانت بادية للعيان على أنّها قويّة وطيدة الأركان فإنّها في الحقيقة ليست كذلك، لأنّها لا تملك لا فكرا ولا رؤًى ولا استشرافات. وينبغي على هؤلاء ألّا يحيدوا عن مبادئهم إن هم احتلّوا مراكز قياديّة لأنّ التّيّار جارف والمُغريات كثيرة.

إنّ القضاء على هذه المزالق سيكون فاشلا ما لم يتمّ فيه فهم الأمور على أساس مجموع الأمّة، وذلك من خلال قطع الدّور الوساطيّ الذي تقوم به البرجوازيّة الوطنيّة، وتأميم هذا القطاع أيضا، ومن خلال إدخال الجماهير في الحياة السّياسيّة؛ ويجب أن يتمّ ذلك بهدف تحقيق حكم الشّعب من أجل الشّعب، لا من أجل تقنيع اتّجاه برجوازيّ، إذ لا يعني إدخال الشّعب في السّياسة أن تردّه طفلا، بل أن تجعله راشدا. وللحزب دور كبير في تحقيق ذلك.

يتمثّل دور الحزب أساسا في توعية الشّعب لا في مراقبته، وفي إيصال كلمته إلى السّلطة لا منعها عن الوصول إليها، وفي القيام بعمليّة تحديث على مستوى الاقتصاد والسّياسة والبُنى الاجتماعيّة.

"فالحزب السّياسيّ هو أوّل وسيلة تحديث، وذلك بسبب أصله المرتبط بمبادرة النّخب العصريّة وتنظيمه الذي يسمح له بإقامة علاقات أكثر مباشرة مع الجماعات من علاقاتها بالإدارة، وأخيرا بسبب وظائفه وأهدافه، لأنّه يريد أن يكون، وهو كذلك في عدّة ميادين، متعهّد التّنمية. وهذه المظاهر بارزة في حالة الأحزاب أو الحركات التّوحيديّة النّاجمة عن رغبة في تغيير الجماعة وإعادة بناء العلاقات الاجتماعيّة وخلق شكل جديد من الوعي والأخلاق" (بالاندييه، 2007، ص. 217).

ولكنّ دور الحزب في بعض المناطق الإفريقيّة قد تغيّر جذريّا، فنجد قادة الأحزاب فيها يتصرّفون تصرّف جنديّ برتبة عريف، فهم لا يفتأون يذكّرون الشّعب بضرورة "الصّمت في الصّفّ". ونلاحظ أيضا أنّ بعض الأحزاب تدّعي أنّها قوميّة ولكنّها تتصرّف تصرّف حزبٍ قبَليٍّ، ويصبح الشّعب في نظر الحزب قطعانا تُساق بعد أن كان رأسمال يُستثمَر. ولكنّ فانون يقترح من أجل القضاء على هذا المزلق، ألّا يتمركز قادة الأحزاب في المدن، بل عليهم أن يفرّوا منها فرارهم من الطّاعون، وألّا يتسلّم القادة الحزبيون سلطات إداريّة، وذلك لدفع شُبهة أن يكون الحزب في نظر الشّعب هو السّلطة، لأنّه غير ذلك، فهو همزة وصل بين الطّرفين.

إنّ من شأن القضاء على تمركز الحزب في المدن أن يُصبح لدينا قادة حزبيون في الرّيف ينقلون مشاغل الرّيفيين للسّلطة، ويمنعون أيضا، من خلال توعيتهم للفلّاحين، موجات النّزوح الرّيفيّ التي تؤدّي إلى تضخّم المدن وتضخّم مشاكلها. وتصبح تبعا لذلك المناطق الدّاخليّة للوطن مخصوصة بالامتياز مثلها مثل سائر المناطق الأخرى.

وعلى المثقّفين والنّخب والمسؤولين ألّا يتمنّعوا عن الذّهاب إلى المناطق الرّيفيّة، وألّا يفقدوا الاتّصال بها بسكانها. ولقد شهدت الجزائر في العقد الأخير عزوفا كبيرا لدى فئة الأطّباء مثلا عن تأدية الخدمة المدنيّة في المدن الدّاخليّة أو الصّحراويّة، ونتج عنه اضطرابات وعصيان مدنيّ أدّى إلى تنازل الحكومة عن طلبها. وهذا في نظرنا تنكّر للجميل من جهة، وبعث لعنصريّة جديدة من جهة أخرى بين سكّان المدن السّاحليّة الكبرى وغيرها من المدن. وينبغي على الحزب أن يمنع انتشار هذه الأفكار في المجتمع من خلال دوره التوعويّ الذي فقده بفقدان اتّصاله مع الشّعب. وينبغي على هؤلاء المثقّفين ألّا ينسوا أنّ الثّورة منحتهم خدمة عظيمة بأن وصلتهم بالشّعب، فقد تخلّى الطّلبة عن جامعاتهم وذهبوا إلى الجبل، وترك الأطّباء مناصبهم وذهبوا إلى الجبل، وانشق أعضاء الحزب عن حزبهم وذهبوا إلى الجبل أيضا، والأمثلة في هذا المجال عديدة، وما ينبغي لنا إلّا أن نغرس ذلك في نفوس المثقّفين، لأنّنا بدأنا نشهد انفصالا كبيرا بينهم وبين الشّعب في وقتنا الحاضر إن لم نقل تعاليّا منهم على الشّعب برمّته.

وتطرح قضيّة اللّغة المستعمَلة في مخاطبة الجماهير نفسها في هذا المقام، فالنّخبة التي تستعمل كلاما مصطلحيّا معقّدا -وهي تبيّت في ذلك نيّة سيّئة-
لا ترى في الشّعب سوى جاهل وهو ليس كذلك. فليس هناك أفضل من الشّعب في تلقّي الأفكار وإثرائها وتعديلها حسب المرجعيّة الأصيلة للقيم. وينبغي ألّا نعتقد أنّ الشّعب يؤخّر حركة تطوّر البلاد، بل على العكس، يعجّلها إن هو أُشرِك في ذلك ولم يُقصَ منها، وسنرى لاحقا أنّ من بين ما دعا إليه مالك بن نبيّ هو الاستثمار في الإنسان.

ويستفيض فانون في الحديث عن مظاهر انغماس النّخب في الشّعب بالاستشهاد بالثّورة الجزائريّة، ويذكر الحلول التي تمّ وضعها من أجل مجابهة كلّ المصاعب التي واجهتها الثّورة، ويفخر بمدى نجاعة التّخطيط الذي وضعه أبناء البلد لا الأجانب من أجل الحفاظ على وتيرة الوعي القوميّ والقضاء على الاستعمار بنوعيه. ونجده يحثّ على ضرورة مشاركة الجميع في العمل، ويرفض أن يكون هناك متفرّجون على ما يحدث، ويسم هذه الفئة بالجبن، ويستنكر تفضيلها بعض النّشاطات الثّانويّة كالرّياضة على حساب العمل. وكلّ ذلك من أجل بناء أمّة متّحدة اجتماعيّا وقويّة اقتصاديّا.

الاستقلال والاستقلالويّة من منظور بن نبي والعروي

سنتحدّث في هذا المبحث عن دور التّخطيط في إنجاح الاستقلال الذي جاء كثمرة للعمل الثّوريّ الذي خاضته الشّعوب، والذي كان من المفترض أن يحقّق جميع مطالب الشّعب على الصّعيدين الاقتصاديّ والاجتماعيّ، إلّا أنّ سوء التّخطيط في المجالين أو انعدامه أحيانا جعلا الاستقلال ينقلب من نعمة إلى نقمة، ومن استقلال إلى استقلالويّة. ووجب، تلافيّا لكلّ هذه الانزلاقات، بعث مخطّط شامل من أجل أن تصبح البلدان التي كانت مستعمَرة سابقا، مستقلّة عن تبعيّتها للغرب الذي تحوّل إلى استعمار من نوع آخر؛ ساعدته في ذلك سياسات هذه الدّول من تلقاء نفسها. وسنعمد في ذلك إلى الاقتصار على مفكّرين كبيرين من مفكّرينا ألا وهما مالك بن نبيّ وعبد الله العرويّ. واقتصارنا عليهما فقط ليس من باب تقسيم إفريقيا إلى قسمين: شمال الصّحراء الكبرى وجنوبها، لأنّ القيام بذلك هو محاولة تدميريّة لما نادى إليه فانون بخصوص الوحدة القوميّة الإفريقيّة، ولكنّه من باب عجزنا عن الإلمام بالتّاريخ الفكريّ لإفريقيا ومفكّريها.

ويجدر بنا أن نشير إلى أنّ هذين المفكّرين لم يناديا بالوحدة الإفريقيّة القوميّة التي نادى إليها فانون، وإنّما كان توجّههما توحيدا عربيّا أو إسلاميّا لا إفريقيّا. إلّا أنّ هناك العديد من النّقاط الجامعة بينهما وفانون؛ خصوصا وأنّنا نعلم أنّ الرّجلين كليهما قرآ فانون وناقشا بعض أفكاره، بل ربما اتّخذوها منطلقا أساسيّا بنيا عليه رؤاهما.

ويدلي كلٌّ من مالك بن نبيّ وعبد الله العروي برأيه في قضيّة ما إذا كان للاستعمار دور إيجابيّ على الشّعوب العربيّة الإسلاميّة، فإن كان العروي يؤكّد على إيجابيّة الاستعمار على هذه الشّعوب، فإنّ بن نبيّ لا يتفق معه كليّة، بل يرى أنّ الاستعمار مثل السّوط الذي أيقظ الأمّة من سباتها الذي غطّت فيه ابتداء من عصر الدّولة الموحديّة. وهذا يخالف تماما أو نسبيّا ما كان يراه فانون من أنّ الاستعمار شرّ مطلق لا غير، فيقول العروي، في كتابه الإيديولوجيا العربيّة المعاصرة في معرض حديثه عن جمال الدّين الأفغاني بوصفه "الشّيخ"، أنّ هذا الأخير "كان كثير المشاغل وكثير الثّقة بالمستقبل إلى درجة أنّه تعامى عن واقع مرٍّ ملحٍّ وهو أنّه قدَرٌ على العرب أن لا يدخلوا التّاريخ إلّا بعد الهزيمة والاحتلال. والدّليل على ذلك قائم أمامنا الآن: كلّ بلد عربيّ عبث به القدَر وأفلت بالمصادفة من ربقة الاستعمار إلّا ونراه غارقا في بحر الخمول والكآبة" (العروي، 1995، ص. 51). ولسنا ندري هل يرى العروي في البلدان التي كانت مستعمَرة أنّها متطوّرة مقارنة بالدّول التي لم تستَعمَر؟

وأمّا بن نبيّ فيقول في كتابه شروط النّهضة ما يلي: "ولكنّ ذلك لا يدفعنا إلى أن نحسبه (أي الاستعمار) شرّا كلّه، بل إنّ خيرا قد حقّقه الله على يديه من حيث لا يدري، فلئن كان بطشه انتقاما لقد كان في طيّته رحمة" (بن نبي، 2015، ص. 153). ويقول أيضا: "ولكن إذا كان هذا هو الواقع الاستعماريّ، فيجب أن نعترف بأنّه أيقظ الشّعب الذي استسلم لنوم عميق" (بن نبي، 2015،
ص. 154). ولسنا ندري لماذا ذهب بن نبيّ هذا المذهب وهو نفسه يقرّ أنّ الشّعب الجزائريّ كان ذا عبقريّة فذّة، وأنّ القائد الفرنسيّ بوجو -وهو الصّورة المقابلة لصورة الأمير عبد القادر- كان أوّل من يدرك ذلك، فسارع بمقتضى ذلك إلى وضع الطّريقة المناسبة لاستقرار الاستعمار (بن نبي، 2015، ص. 150). ويتكفّل بن نبي نفسه في تبيان هذ الطّريقة، إذ أنّ بوجو عندما أدرك أنّ المعمّرين الفرنسيين لا يضاهون الجزائريين، عمد إلى القيام بحملة الانتقاص من قيمة الجزائريين وتحطيم قواهم الكامنة، وازدادت وتيرة هذه الحملة خصوصا بعد هزيمة فرنسا في حرب 1870 ضدّ بروسيا. وبالنّظر فيما يقوله بن نبيّ يتبادر إلينا السؤال الآتي: كيف يكون الاستعمار سببا في انحطاطنا من جهة وسببا في إيقاظنا من نومنا من جهة أخرى؟ وإذا وافقنا بن نبي في ذلك فهل يكون مثلا السّارق الذي يُرجِع ما سرقه إلى صاحبه ذا فضل عليه؟

وعلى صعيد آخر لا نجد العروي يتحدّث عن القوميّة الإفريقيّة، وإنّما عن الدّولة القوميّة التي يرى أنّها أتت في أعقاب تجارب كثيرة كثيرا ما أبانت عن العجز وانتهت بالفشل (العروي، 1995، ص. 73). ونجده ينظر إلى البرجوازيّة الوطنيّة نظرة مغايرة لما ذهب إليه فانون أيضا تماما، فيقول في الكتاب نفسه ما يلي:

"هذه الهيئة الاجتماعيّة محدودة الذّكاء والهمّة، غير مثقّفة وغير أنيقة، تمثّل مجموعة فئات غير متجانسة أكثر ممّا تكوّن طبقة موحّدة، ومع كلّ هذه السّلبيات يجب الاعتراف بأنّ الدّولة التي أسّستها استطاعت عن طريق الضّغط والإكراه أن تفرض على عقولنا ما كنّا قد نسيناه منذ قرون: الزّمن الخلّاق، والطّبيعة الحيّة، والسّعي المجدي. لِيزْدَرِها من شاء ممّن يدّعي الثّقافة (وأغلب الظّنّ أنّه يقصد فانون هنا)، الواقع أنّها وحدها تمكّنت ولأوّل مرّة من أن تفتح لكلّ شرائح المجتمع دروب المستقبل" (العروي، 1995، ص. 76).

ولكنّ العروي لا يبيّن لنا الكيفيّة التي فتِحت بواسطتها دروب المستقبل لكلّ شرائح المجتمع، وكان عليه أن يفعل ذلك كي يكون بإمكاننا الخوض في كلامه، وأمّا مجرّد كلام تقريريّ بهذا الشّكل فلا خوض فيه.

لقد بنى العروي كتابه على معالجة مذاهب ثلاث شخصيات حاولت تقلّد زمام بعث الحضارة العربيّة، وهذه الشّخصيات عنده هي الشّيخ ويقصد به العروي رجل الدّين، والزّعيم السّياسيّ، والدّاعيّة إلى التّقنيّة. ثمّ يصل إلى فكرة مفادها أنّه سيأتي يوم يعترف فيه الجميع) أي الشّخصيات الثلاث( بضرورة مزاوجة التّقنيّة والأصالة، ولكنّه لا يبيّن لنا على عادته الكيفيّة أو الوسيلة التي تحقّق ذلك. إلّا أنّه يرى أنّ على الدّولة القوميّة التي تريد من كلّ عناصر المجتمع التّصالح فيما بينهم أن ترفع راية الاشتراكيّة، وذلك من خلال المناداة بضرورة التوفيق بين القوّة الماديّة والحفاظ على تراث السّلف، فلا تفرّط في شيء، لا ممّا هو قائم في الحاضر ولا ممّا هو منحدر إلينا من الماضي )العروي، 1995، ص. (79 .ولكنّ هذا التّبني للاشتراكيّة بهذه الطّريقة يبقى حسب العروي مجرّد مزيج غير منسّق لنُتفٍ من الأفكار والعقائد مبعثرة في وعي أجوف ومجتمع كتيم، وذلك لادّعائه تخطّي كلّ تعارض بين الثّابت والمتغيّر فينا) العروي، 1995، ص.(80 .

ويتنبّأ العروي بتفكّك هذا النّزوع نحو الاشتراكيّة، ويقترح بديلا عنه، فيرى أنّه -انطلاقا من مكاسب الاشتراكيّة القوميّة وبعد الاعتراف بالطّابع الفضفاض للدّعوة إلى الأصالة- بإمكاننا تقديم خلاصة مؤقّتة عن علاقتنا بالغرب، خلاصة تنقذ العقل الذي يهدّده اليوم شرّاح مغرّضون (العروي، 1995، ص. 82). ويقسّم العروي الغرب إلى غربين: غرب الظّاهر، وهو الذي يبدو متعاليّا على الآخر في كلّ أحواله، ويفرض الحقيقة الواقعيّة عليه، وغرب الأحلام، وهو الذي يريد أن يخلق إنسانا متصالحا مع نفسه، ويتطلّع إلى المستقبل من خلال مخاطبة شعوبه وشعوبنا. ويتكفّل العروي بمهمّة إرشادنا إلى الاستماع إلى الغرب الثّاني مستشهدا بفانون الذي أقرّ هو الآخر بأنّ لأوروبا طلعات مشرقة رسمت خطوطها من حين لآخر (العروي، 1995، ص. 85).

ويبدو أنّ العروي يستجلب فانون هنا من أجل أن يعيب عليه عدّة أمور، منها انتصار بعض التّقدّميين (وفانون واحد منهم) للضّحايا ضدّ أسياد الاستعمار، فلا يقبلون بحال أن يتسامح أولئك مع هؤلاء أو يقلّدوهم في شيء من الأشياء وإلّا شعروا بالخيانة والعقوق (العروي، 1995، ص. 86). ولقد جاء كلام العروي هذا بعد دعوته إلى استثمار التّاريخ الغربيّ المنحصر بين النّهضة الأوروبيّة وبداية الحملات الاستعماريّة بدعوى أنّ فيه ما ينفعنا أو يساعدنا على بناء حالنا. وربّما عمِي العروي عن بعض الحقائق منها أنّ الفترة التي يتحدّث عنها كانت فترة استغلال بامتياز من الغرب لغيره، وأنّها تزامنت مع حملات الاسترقاق والعبوديّة الكبيرة التي مورست ضدّ الأفارقة من طرف غرب الأحلام نفسه، وأنّها كانت فترة حملات الاستشراق الواسعة النّطاق من أجل معرفة الآخر وتسهيل عمليّة إخضاعه واستغلاله، وأنّها كانت فترة سباق نحو التّسلّح بين مختلف القوميّات الأوروبيّة من أجل التّوسّع داخل أوروبا أو خارجها عن طريق تقويّة الأساطيل البحريّة، وغيرها من مميّزات هذه الفترة التي تنفي وجود غرب الأحلام الذي يراه العروي وتبرز غرب الظّاهر بوصفه ساعيّا دائما إلى التّمركز حول ذاته منذ آماد بعيدة انطلاقا من نظريّة الكيوف الأريسطيّة، ووصولا إلى الخصائص الاستعلائيّة للإمبراطوريّة الرّومانيّة، وانتهاءً بالاستعمار بنوعيه القديم والحديث.

ويعيب العروي أيضا على هؤلاء التّقدّميين قولهم أنّه يجب على كلّ من تحرّر من ربقة الاستعمار أن يغاير سيّده المستعمِر في كلّ شيء، لأنّ منطق تفكيرهم حسب العروي هو الانتصار للإنسانيّة. ولكنّ العروي يتدارك كلامه قائلا:

"يحقّ لبعض الشّعوب التي ظُلمت أكثر ممّا ظُلمنا، وجُرحت أعمق ممّا لحق بنا الهامش أن تستسلم لهذا النّداء المتشدّد الخادع. إنّه خادع إذ من يجهل أنّ التّمرّد ضدّ العقل قد وُلد في الغرب، وأنّ سيطرة النّزعة الوضعانيّة على الفكر الأوروبي في القرن الماضي، هي التي أدّت، بهدف التّوازن، إلى ظهور التّحليل النّفسيّ والإثنولوجيا، وأنّ احتقار العقل قد وُظّف وبأقصى حدّ في المستعمَرات لاستغلال شعوب الطّبيعة كما يسمّي اليوم البعض تعفّفا الأمم الإفريقيّة. أولم يعرف ذلك فرانز فانون؟ ومع ذلك نراه يسقط في الفخّ الغربيّ بكلّ أسف" (العروي، 1995، ص. 87).

نحن لا ندري ما هو الدّافع الذي جعل العروي يتهجّم على فانون بتلك الطّريقة، والفقرة المواليّة تبيّن أنّ تهجّمه ذاتيّ وغير موضوعيّ البتّة. يقول:

"أمّا أخونا الغاضب على انفصام ذاته وضياع هوّيّته[2]1 سواء أكان من دعاة الأصالة أو من أصحاب اللّحى والعمائم، الذي يجاري أولئك الغربيين، أنصارِ المخالفة المطلقة، فيطالب بكلّ شيء أو بلا شيء[3]2، فإنّنا نذكّره بوقائع يحلو له أن يتناساها. فإذا كان يصرّ اليوم على رفض الغرب باسم الوفاء للتّراث والأسلاف، فما ذاك إلّا أنّه أضاع مع ذاته القديمة حتّى ذكرى ماضيه. هل يتذكّر وهو يعيش في وطنه أرض الشّمس والزّيتون، كم مدنا خُرّبت وآبارا سُمّمت وسُفنا أُحرقت قبل أن يضمن في ذاته ما ظهر له أوّل الأمر غامضا وغير محتمل؟ يفخر اليوم بلغة طالما كسّر تراكيبها وشوّه مخارجها، برسالة طالما طمس معالمها، بتيّارات فكريّة حاول جاهدا أن يخمدها في أجيج النّيران! بالأمس قاوم الرّبّ الذي كلّم عرب الصّحراء، وها هو اليوم يعبده صادقا، تنكّر بالأمس للحضارة اليونانيّة وها هو اليوم يعتزّ بها ويدّعي أنّه أنقذها من التّلف."

ولا يسعنا الرّدّ على هذا إلّا بالقول أنّ الشّخص الذي يعجز عن نقد الأفكار، يلجأ غالبا إلى نقد صاحبها، متناسيا أنّ النّظر يكون في القول لا في صاحبه. ونحوصل حديثنا عن كتاب العروي هذا، بعيدا عن تعرّضه لفانون، إذ نجده يرفض، على الصّعيد الاقتصاديّ، اللّجوء إلى الماركسيّة، لأنّنا سنجد داخلها تلك الثّنائيّة التي أشار إليها العروي نفسه في وضعانيّة الدّولة القوميّة، أي أنّها مقبولة كمذهب ومرفوضة كمنهج، مع فارق وهو أنّ الماركسيّة ربّما كانت منتهى كلّ اختيار وضعانيّ (العروي، 1995، ص. 170). وفي هذا الصّدد يرى العروي أنّ الماركسيّة تتيح خطّة علاجيّة للتّأخر، وتتلخّص هذه الخطّة في قرارين: تأميم التّجارة الخارجيّة والإصلاح الزّراعيّ، وكلاهما شرط ضروريّ للتّصنيع. ويبدو لنا أنّ هذين القرارين هما القراران نفسُهما اللّذان نادى إلى اتّخاذهما فانون، فهل هذا التّشابه بين العروي وفانون هو مجرّد تشابه أم أنّ هناك أمورا أخرى؟

ويذكر العروي أنّ تفضيل المفكّر العربيّ للماركسيّة يعود إلى أمرين: الأوّل أنّها تبدو أكثر اتّساقا، والثّاني أنّها أكثر انتقادا للغرب البرجوازيّ. ولكنّه يحذّر من تحوّل هذه الماركسيّة إلى سوسيولوجيا على أيدي المصلحين العرب: الشّيخ، والزّعيم السّياسيّ، والدّاعية إلى التّقنيّة.

ويتناول عبد الله العرويّ في كتاب آخر له موسوم ب "مفهوم الدّولة" جملة من الآراء التّاريخية والفلسفيّة والسياسية حول ماهية الدّولة، ويعالج أشهر مقالتين حول ذلك، ويخلص منهما إلى أنّ الدّولة لا تتقمّص القيمة إلّا إذا انغمست في المجتمع وخدمت أغراض الفرد العاقل. وهو يذهب في ذلك مذهب إرنست كاسيرر الذي يرى أنّ التّفكير المنطقيّ في مسألة الدّولة هو الاعتماد على الفرد الحرّ والنّظر إلى الدّولة ككيان اصطناعيّ أبدعه الفرد ليبقى دائما في خدمته (العروي، 2009، ص. 20).

ولكنّ هذا المذهب يشوبه بعض التّناقض الظاهر، ومع ذلك، فإنّ العروي يستشهد بهيجل من أجل أن يبرز الدّور الذي يلعبه هذا التّناقض المستمرّ بين الدّولة والفرد والوجدان والأخلاق، فلكي تستحقّ الدّولة أو هذا الكيان السياسيّ أن يسمّى دولة بمعنى الكلمة، فعليه أن يحتمل هذا التّناقض ويتجاوزه، ويجعل منه وسيلة للحفاظ على الوحدة (العروي، 2009، ص. 30). فالدّولة هي الفكرة الموضوعية الأخلاقيّة إذ تتحقّق.

ويدعو العروي إلى مراجعة كلّ ما كُتب حول الدّولة، ويعرّج إلى إريك فيل الذي حاول موضعة أفكار هيجل عن الدّولة في قالب؛ يمكن تجاوزه من ناحية، ولكن لا يمكن بتاتا تفنيده من ناحية أخرى. فلكي نفهم الدّولة علينا أن نراها كما هي، بوصفها المعطى السياسيّ الإنسانيّ، فالدّولة هي هي، صحيح أنّ نتائجها المخيفة والمقيتة تجعلنا نحقد على الواقع، لكنّها لا تمكّننا أبدا من تجاوز ذلك الواقع. ويخلص إلى أنّ نظرية هيجل في الدّولة صحيحة، وأنّ الانساق وراء النّظريات الأخرى يقود إلى الفوضى (العروي، 2009، ص. 38).

وأمّا بن نبيّ، فإنّنا نجده لا يتحدّث عن قوميّة إفريقيّة، وإنّما عن وحدة عربيّة إسلاميّة تمتد على محور طنجة-جاكرتا، وذلك في مواجهة محور آخرَ يمتد من موسكو إلى واشنطن، ويسمّي بن نبيّ المحورَ الثاني محورَ الصّناعة، والمحورَ الأوّل محورَ المواد الخامّ، ويتميّز المحور الصّناعيّ بامتلاكه نفسيّة القوّة، بينما يفتقد محور الموادّ الخام هذه النّفسيّة ليحلّ محلّها نفسيّة البقاء (بن نبي، 2001، ص. 165). وانطلاقا من هذا التّقسيم سنجد مالك بن نبيّ يتحدّث عن ضرورة التّخطيط الشّامل من أجل ألّا يصبح اقتصادنا وسيلة لتغذية مطامع اقتصاد الآخر ووسيلة لتوطيد استغلاله لنا.

ولكي يكون اقتصادنا قويّا، يقترح بن نبيّ أمرين لا ثالث لهما: يتعلّق الأوّل بالموارد المادّية وكيفية استغلالها، ويتعلّق الثّاني بالإنسان وكيفيّة استثماره. ويرى بن نبيّ أنّ حلّ المشكلة الاقتصاديّة، يكون على مستوى العناصر النّفسيّة، بتكوين وعي اقتصاديّ بكلّ ما يستتبعه في التّكوين الشّخصيّ للفرد وفي عاداته، وفي نسق نشاطه، وفي مواقفه أمام المشكلات الاجتماعيّة (بن نبي، 2001،
ص. 162). وأمّا حلّها على مستوى العوامل الاقتصاديّة البحتة، فيجب فيه تدارك التّخلّف النّاشئ عن اقتصاد ما زال في مرحلته الابتدائيّة من أجل بلوغ مرحلة التّصنيع، وليس له ما يعتمد عليه في ذلك سوى الزّراعة من ناحية، والمواد الخام من ناحية ثانيّة، وهما ثديا الاقتصاد الأفروآسيويّ ووسيلتا بعثه حسب بن نبيّ. ونجد بن نبي يدعو إلى ضرورة حلّ مشكلة تسويق المادّة الأوّليّة، وهي ما دعاه فانون سابقا بتأميم القطاع الوساطيّ الذي تقوم به البرجوازيّة الوطنيّة، إلّا أنّ بن نبيّ يتوسّع في الحديث عن هذه المعضلة ويحلّلها بعمق، فيبيّن أنّ السعر يتحدّد في البورصة انطلاقا من العلاقة بين المادّة الأوّليّة والعملة، أي أنّ السّعر لا يتحدّد انطلاقا من العناصر الاقتصاديّة الخاضعة لقانون العرض والطّلب فحسبُ، بل إنّه يتحدّد أيضا بعناصر غير اقتصاديّة تُفصح عن اعتبارات ماليّة وسياسيّة واستراتيجيّة، أي الإرادة الخاصّة لأحد الأطراف، وهو مَن بحوزته العملة طبعا (بن نبي، 2001، ص. 170). ولذلك فإنّه يتوجّب علينا أن نحرّر المادة الأوّليّة من ظروف السّوق الرّاهنة من خلال إنشاء "مصرف المادّة الخام".

وبناءً على ذلك نجد فانون وبن نبيّ يشتركان في مبدإ واحد، يتمثّل في ضرورة قطع العلاقات الاقتصاديّة الكلاسيكيّة مع المستغلّ بصورة جذريّة، ولكنّهما يختلفان في الكيفيّة، فإن كان فانون يرى بضرورة غلق الطّريق أمام البرجوازيّة الوطنيّة في هذا المجال؛ وجعله في يدّ الدّولة؛ شرط أن يكون رجالها من أولئك الذين يكرهون كلّ أشكال الانتفاع الشّخصيّ، فإنّ بن نبيّ يدعو إلى ضرورة قطع العلاقة الرّاهنة بين المادة الأوّليّة والعملة.

ومن بين النّقاط التي تجعل آراء الرّجلين متقاربتين قضيّة التّعويض الذي تطالب به الدّول المستعمَرة سابقا من المستعمِر، فلقد نادى فانون بضرورة ذلك في معرض حديثه عن العنف (فانون، 2015، ص. 90)، وتحدّث بن نبي عن ذلك أيضا، ولكنّه لا يحبّذ الانصياع وراء سياسة المطالبة بالحقوق دون القيام بالواجبات، وهذه النّقطة هي نفسها التي عالجها فانون أيضا، إلّا أنّ بن نبيّ يرى أنّ النّزوع نحو المطالبة بالحقوق دون تأدية الواجبات؛ تعود جذوره في الجزائر إلى الفترة الممتدة بين 1934 و1939 (بن نبي، 2015، ص. 149)، وهذه الفترة هي التي تأسّس فيها حزب الشّعب الجزائريّ بقيادة مصالي الحاج، والذي ساغ برنامجه كلّه على شكل مطالب لا واجبات، وهو ما لم يعالجه فانون بهذا العمق الذي نشهده عند بن نبي.

ومن النّقاط المتماثلة عند الطّرفين قضيّة إدخال الشّعب في الحياة السّياسيّة بهدف جعله راشدا لا طفلا يسهُل استغلاله، فقد نادى فانون إلى ذلك في معرض حديثه عن دور الحزب في توعية الشّعب على جميع الأصعدة، وها هو بن نبيّ يكرّر الفكرة ذاتها في معرض حديثه عن السّياسة و"البلوتيك"، إذ يرى أنّ السياسة هي محاولة التّأمّل في الصّورة المثلى لخدمة الشّعب، أمّا البلوتيك فهو مجرّد صرخات وحركات لمغالطة الشّعب واستخدامه (بن نبي، 2015، ص. 98).

ونجد عند الرّجلين نقطة التقاء أخرى تتمثّل في مبدإ تشابه اطّراد التنمية في كلّ مكان، والمقصود به هو مدى صلاحيّة الأنظمة الاقتصاديّة المصدّرة إلينا من الغرب، وقد طرح فانون هذه القضيّة وقال فيها أنّه ليس لزاما على دول العالم الثّالث الاختيار بين النّظام الرأسماليّ والاشتراكيّ، إلّا أنّه يفضّل الاشتراكيّة على الرأسماليّة بشرط أن يتمّ تكييفها وفق المعطيات التي تطبع عالمنا (فانون، 2015، ص. 88). وأمّا بن نبيّ فيذهب المذهب نفسه، ويرى أنّ أكبر الأخطاء التي ارتكبت هي أنّ الخطط قد وُضعت على مبدإ تشابه اطّراد التّنميّة في كلّ مكان مع ما سار عليه النّموّ في البلدان الغنيّة
في الغرب (بن نبي، 2015، ص. 157).

ومن بين ما أثاره مالك بن نبيّ هو قضيّة التّغيير الذي أحدثته الإيديولوجيا الماركسيّة في الإنسان ذاته، وذلك كمقدّمة لما ينوي إثباته حول قضيّة الإنسان التّابع. فنجده لا يردّ التّبعيّة هذه إلى ظروف اقتصاديّة مثلما فعل فانون، ولكنّه يردّها إلى وجود قابليّة لدى إنسان العالم الثالث على المستوى النّفسيّ لأن يكون تابعا للغرب، وهذا ما لا يقبله فانون تماما. والغريب في الأمر أنّ مالك بن نبيّ ينطلق من الكتاب نفسه الذي دحض أفكاره فانون في كتاب "بشرة سوداء أقنعة بيضاء" ألا وهو كتاب مانوني الموسوم بـ"بسيكولوجيا الاستعمار"؛ المليء بالتّمثيلات التي حاول مانوني تمريرها تحت غطاء الموضوعيّة من أجل جعل الآخر لصيق عقدة دونيّة وتبعيّة للغرب، وهو جزء من منظومة كبرى تهدف إلى استغلال الآخر، ولكنّ بن نبيّ والعروي قبله أدهشانا بالانصياع لهذه المقولات دون تمحيصها. إذ الصّواب القول بأنّه تمّ خلق عقدة تبعيّة لدينا وتنشئتها انطلاقا من واقعنا، أمّا القول بأنّ لدينا هذه العقدة بالفطرة وأنّه "لو لم يصنع الرّجل الأبيض الصّابون لبقي الرّجل الأسود دون أن يغسل يديه"
(بن نبي، 2015، ص. 158) فهذا مغالطة كبيرة ومرفوضة. ويؤكّد بن نبيّ على صعيد آخر أن يكون التّخطيط نابعا من أبناء البلد لا من الخارج، وأنّ أيّ مشروع نفكّر فيه بأفكار الآخرين ونحاول إنجازه بوسائل غيرهم معرّض للفشل لا محالة (بن نبي، 2015، ص. 172). وهذا عين ما تحدّث عنه فانون عندما أعطى مثالا عن الكيفيّة التي تدبّرت بها قيادة الثّورة أمورها في تنظيم الثّورة وأمور النّاس على كلّ الأصعدة دون الحاجة إلى مفكّري الغرب ومهندسيهم (فانون، 2015، ص. 157). ويبيّن بن نبيّ أنّ فاعليّة أيّ عمليّة تخطيط لا تتمّ ما لم يتمّ تحويل العمل المتوقّع إلى عمل واقع يقدّر بالسّاعات، وأنّه لا مكان للمتفرّجين ضمن هذه العمليّة؛ إذ يتوجّب على كلّ السّواعد العمل (بن نبي، 2015، ص. 174-175). وهذه الفكرة أيضا موجودة في كتابات فانون حين يقرّ مبدأ أنّ كلّ متفرّج جبان أو خائن (فانون، 2015، ص. 162).

خاتمـة

وبإعادة النّظر إلى النّقاط العديدة المشتركة بين هؤلاء المفكّرين، خاصّة بين بن نبيّ وفانون، تطرح قضيّة التّأثير والتّأثّر نفسها هنا، وكنّا ننوي أن نقول أنّ مالك بن نبي مارس بخصوص أفكار فانون جدلا هيجيليّا؛ أي أنّه أزال ما فيها من نقائص، ورفع ما فيها من محاسن، فقد طوّر بن نبي فعلا مفاهيم فانونيّة عديدة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: ضرورة التّخطيط الشّامل والفعّال، وضرورة الاستثمار في الإنسان بذاته لأنّه رأس المال الفعليّ، ونبذ فكرة الاستدانة، ورفض سياسة المال، وأنّ التّخطيط يضعه أبناء البلد لا غيرهم، وأنّ على الجميع المشاركة في العمل. ولكنّ الغريب في الأمر هو أنّه رغم كلّ هذه الأدلّة التي تثبت وجود تأثر وتأثير، إلّا أنّنا لا نجد -حسب علمنا- ذكرا لاسم فانون في كتابات بن نبيّ إلّا في الصّفحتين 108 و109 من كتاب "القضايا الكبرى" (بن نبي، 2014، ص. 108-109) وفي الصّفحة 267 من "مذكرات شاهد للقرن" (بن نبي، 2014، ص. 268). وهذا يطرح تساؤلا كبيرا عن السّبب الكامن وراء ذلك خاصّة وأنّ ذكر اسمه يكون مصحوبا غالبا بنقد غير موضوعيّ تماما.

وهذه الملاحظة لا تنطوي على بن نبيّ فقط، وإنّما تنزاح على آخرين من أمثال مصطفى الأشرف الذي رُويَ عنه أنّه قال أنّ فانون قال له: "بعد كلّ شيء أنا أوروبيّ...ومن الطّبيعيّ ألّا أرى المشاكل بالمنظور نفسه الذي ترونه منه أنتم" (الميلي، 2007، ص. 73)، فهل هذا قصور في قراءة فكر فانون قراءة جيّدة؟ أم أنّ هناك تقصيرا متعمّدا لغايات غير واضحة مع العلم أنّ هناك نقاطا عديدة جامعة بين الجانبين؟ كنّا نودّ لو أنّ صاحب كتاب "جدل الثقافة" توسّع في جمعه بين فانون وبن نبي ومصطفى الأشرف (بن بوعزيز، 2018، ص. 74-102) وبصّرنا بهذه الغايات ولكنّه لم يفعل.

حواشي سفلية

(1) Université Alger 2, Abou El Kacem Saadallah, 16340, Alger, Algérie.

1 وهذا غير صحيح ويبينُ عن عدم اطّلاع العروي على معالم حياة فانون.

2 هذه قراءة خاطئة من العروي لأنّ المطالبة بكلّ شيء أو بلا شيء مقرونة عند فانون بفترة العنف ضدّ الاستعمار لا بالفترة التي تلت تصفيته والتي نطلق عليها اسما فضفاضا هو الاستقلال.

بيبليوغرافيا

بيبليوغرافيا

العروي عبد الله، (1995). الإيديولوجيا العربيّة المعاصرة. الدّار البيضاء، المغرب: المركز الثّقافي العربيّ.

العروي عبد الله، (2009). مفهوم الدّولة. الدّار البيضاء، المغرب: المركز الثقافي العربيّ.

الميلي مبارك، (2007). فرانز فانون والثورة الجزائرية. الجزائر: وزارة الثقافة.

بالاندييه جورج، (2007). الأنثروبولوجيا السّياسيّة. (المصريّ. ترجمة). بيروت، لبنان: المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع.

بن بوعزيز وحيد، (2018). جدل الثّقافة، مقالات في الآخريّة والكولونياليّة والديكولونياليّة. الجزائر: دار ميم للنّشر.

بن عراب عبد القادر، (2013). فرانز فانون، رجل القطيعة.
(يخلف. ترجمة(، قسنطينة، الجزائر: دار بهاء الدّين للنّشر والتوزيع.

بن نبي مالك، (2001). فكرة الإفريقيّة الآسيويّة في ظلّ مؤتمر باندونغ.
(ع. ا. شاهين. ترجمة(، بيروت، لبنان: دار الفكر المعاصر.

بن نبي مالك، (2014). القضايا الكبرى. دمشق، سوريا: دار الفكر.

بن نبي مالك، (2014). مذكرات شاهد للقرن. دمشق، سوريا: دار الفكر.

بن نبي مالك، (2014). من أجل التّغيير. دمشق، سوريا: دار الفكر.

بن نبي مالك، (2015). بين الرّشاد والتّيه. دمشق، سوريا: دار الفكر.

بن نبي مالك، (2015). شروط النّهضة. دمشق، سوريا: دار الفكر.

خليل فؤاد، (2010). الماركسيّة في البحث النّقديّ: الرّاهنيّة، التّاريخ، النّسق. بيروت، لبنان: دار الفارابي.

عامل مهدي، (2013). أزمة الحضارة العربيّة أم أزمة البرجوازيات العربيّة. بيروت، لبنان: دار الفارابي.

عامل مهدي، (2013). مقدّمات نظريّة لدراسة أثر الفكر الاشتراكيّ في حركة التّحرّر الوطنيّ. بيروت، لبنان: دار الفارابي.

فانون فرانز، (2015). معذّبو الأرض. القاهرة، مصر: مدارات للأبحاث والنّشر.

استشهد بهذا المقال

موايسي, س. (2025). التّحرّر من الاستعمار : بين إخفاق البرجوازيّة الوطنيّة و ضرورة التّخطيط. إنسانيات - المجلة الجزائرية الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية, 29(107), 17–40. https://www.insaniyat.crasc.dz/ar/article/althrr-mn-alastamar-byn-ikhfaq-albrjwazya-alwtnya-w-drwra-altkhtyt