التاريخ والمؤرخون في الجزائر خلال القرن الثامن عشر

 


إنسانيات عدد 100، أفريل–جوان 2023، ص. 53-65


محمد غالم:   Université Oran 1, Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle

31 000, Oran, Algérie


بدأت هذه المقالة بشرح الأسباب التي دعت إلى العناية بالتاريخ في الجزائر خلال القرن الثامن عشر، ولم أكتف بذكر الأسباب المباشرة التي طالما ركّز عليها الباحثون، بل ربطتُ إحياء علم التاريخ بمؤسسة الدولة التي تحتاج دائما إلى مؤرخين ينتجون لها شرعية تستند إليها في استمرار وجود ها ودوام نفوذها.

ثم انتقلتُ إلى تحليل مضمون بهذه الشرعية فلاحظت أنّ مؤرخي القرن الثامن عشر بحكم تكوينهم الفقهي اتخذوا من الفقه منطلقا لهم في تبرير المؤسسة العثمانية وحاولوا التوفيق بين المقتضيات الفقهية وبين البيئة السياسية التي ينتمون إليها (الحكم العسكري العثماني)، فتوصّلوا إلى صياغة شرعية فقهية تقوم على ثلاثة شروط: الجهاد -الرئاسة القوية- العدل .وأخيرا حلّلت مفهوم التاريخ كما يتبيّن في التآليف التاريخية التـــــــي تركها علماء القرن الثامن عشر، فلاحظت أن هناك مفهوم مهمّ للتاريخ لا يختلف عن المفهوم الإسلامي للتاريخ. فالعناية بالماضي لا تصدر عن رغبة في القصص والأسفار، لأنّ التاريخ يحقق الحكمة. يعتبر التاريخ حركة جهد وتأويل بقصد فهم أعمق وإلهام أکبر بسنن الكون والطبيعة الإنسانية.

العناية بالتأليف التاريخي

خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت التآليف التاريخية في الجزائر، عدا سِيَر العلماء والأولياء، نادرة جدا. ولتأكيد هذه الحقيقة نستدل بشهادات علماء القرن الثامن عشر الذين لاحظوا قلّة العناية بالتاريخ منذ مطلع القرن السادس عشر.

يقول أبوراس المعسكري: "إنّي في زمن عطّلت فيه مشاهد العلم ومعاهده ودسّت مصادره وموارده، وقلبت دباره ومراسمه وعفت أطلاله ومعالمه، لا في التاريخ والأدب وأخبار الأوائل والنسب، قد طرحت في زوايا الهجران ونسجت عنها عناكب النسيان وأشرقت شمسها على الأفول واستوطن فحولها زوايا الخمول"1، ويقول ابن المفتي عن وضع علم التاريخ: " تلك الأخبار رسمها بالجزائر مندرس ومكاتبه ذرر الرحلة في شأنها وشأن العلم غير مقتبس" (عبد القادر، 1964، ص. 9). وعن غياب العناية بعلم التاريخ يقول الحسين الورثلاني: "إن الاهتمام بالتاريخ أمر مضحك، لا يدرسه أهل الجد والدين بل ساقط هو عند البعض ضد الدين والاختلاف ... فعلم التاريخ منعدم فيهم وعندهم فيحسبونه كالاستهزاء واشتغال بما لا يعني فترى المتوجه منهم إلى الله يرى الكلام فيه مسقطا من عين الله تعالى ... ليس عندهم علم يذكر إذ لا طائل فيه أهلا"2.

يتبيّن من الشهادات المذكورة أن المؤسّسات التعليمية لم تكن تعتني بتدريس التاريخ لطلابها، فبرامج التعليم ومصادره، كانت في الأساس فقهية، وحلقات الدرس في المساجد والزوايا والمدارس تعتني عموما بالعلوم الشرعية (قرآن، حديث، شريعة...) وتهمل العلوم العقلية مثل الفلسفة والرياضيات والتاريخ وغيرها. أما عنايتها باللغة العربية وقليل من الحساب وعلم الفلك، فتدخل في سياق العناية بالفقه والشريعة ولم تكن مستقلة عنهما. الفقيه يحتاج إلى قواعد اللغة العربية في تدوين الفتاوى والأحكام الشرعية كما يحتاج إلى قليل من الحساب في تطبيق قواعد الوراثة الشرعية وإلى قليل من التنجيم في ضبط مواقيت الصلاة وغيرها .

إن سيادة الثقافة الفقهية التي ترتكز على الشروح والحواشي والمختصرات تؤكدها الإجازات التي كان يمنحها العلماء لطلبتهم. فغالب هذه الإجازات يتعلق بقراءة المصادر الفقهية الكبرى مثل البخاري، والشافعي والغزالي، وخليل أو شروحها كالزمخشري والعسقلاني والثعالبي والقاضي عياض والخرشي وبن زروق. إن "الظاهرة الفقهية" التي ميزت القرنين السادس عشر والسابع وكذلك الجزء الأول من القرن الثامن عشر، تنطبق على التعليم في العالم العربي بكامله وإن كان بعض الاختلاف بين أقطاره.

وقد لا يكفي ذكر الظاهرة الفقهية لتفسير عدم العناية بالتاريخ، فمن الجائز أن يكون نمو الدراسات التاريخية في سير متواز مع الدراسات الفقهية. الدكتور سعد الله يعزو قلّة الاهتمام بالتاريخ إلى سيطرة التصوّف والروح الدينية السلبية "لأنه (أي علم التاريخ) منسوبا عندهم الى الأخبار والسير العامة ومتصلا بالأدب المجون ..."
(سعد الله،1981، ص. 332). ويتّفق مع الباحث الفرنسي ليفي بروفنسال" الذي اعتبر المغاربة قليلي الاهتمام بالتاريخ لأنهم يعتبرونه من المسائل الدنيوية وأنّ: الاشغال به من باب اللهو والعبث" (بروفنسال،1977، ص. 37).

إلى جانب هذا العامل، يشير الباحث "دلفان"3 إلى أن التعليم في المغرب العربي خلال هذه العصور، كان يتم عن طريق الحفظ والاستظهار وإذا كانت هذه الطريقة (المشافهة) تناسب العلوم الشرعية فإن التاريخ لا يدرس شفويا مثله مثل الجغرافيا. ودرس المؤرخ المصري محمد أنيس وضع علم التاريخ في العصـــــــر العثماني فربط بين تدهوره والتدهور العام الذي أصاب الحياة العلمية لا سيما فيما يسمى بالعلوم العقلية منذ عصور الانحطاط ثم عزا هذا التدهور العلمي العام لى طبيعة الحكم العثماني الذي كان يقوم على قاعدة بقاء الأوضاع على ما كانت عليه قبل الفتح العثماني (أنيس، ص. 31-35). فالدولة العثمانية على حدّ تعبيره كانت ترى أن وظائف الدولة تنحصر في جمع الضرائب والحفاظ على الأمن.

إن هذه الأسباب التي شرحها المختصّون قائمة لا يجوز التشكيك في صحّتها غير أنّ ما يفسّر تراجع علم التاريخ في الجزائر مرتبط بظاهرة أخرى سنشرحها بعد ذكر ملاحظة تتعلّق بتقييم المؤرخ محمد أنيس.

في الواقع، لا يمكن أن نُحمّل الدولة العثمانية مسؤولية الانحطاط العلمي الذي أصاب العالم العربي لسبب واحد هو أنّ هذا الانحطاط سابق لها. ومع ذلك، فأنّ المؤسّسة السياسية العثمانية لم تعمل على تدارك هذا الانحطاط العلمي، بالعكس، فقد زاد الوضع تدهورا في عهدها الطويل بسبب العزلة التي فرضت على المجتمعات العربية بفعل تحول طرق التجارة العالمية.

فإذا قلّت العناية بالتاريخ خلال العهد العثماني، فذلك لأنّ الدولة العثمانية لم تهتم - على الأقل في عهد قوّتها بصياغة شرعية إيديولوجية تقرّ بها وجودها في الأقطار التي احتلّتها، فالعاملان اللّذان عوّلت عليهما السلطنة العثمانية كانا يتمثّلان في الجهاز الإداري المحكم والجيش، والسلطان العثماني أحكم سيطرته على الأقطار العربية التي احتلّتها بفضل الجيش أو الإدارة، ولم يستند إلى دعوة سياسية أو مذهبية معيّنة .

فالمغرب الأقصى، الذي لم يخضع للحكم العثماني، شهد اهتماما واضحا بالتأليف التاريخي منذ القرن السادس عشر، ويعود إحياء التدوين التاريخي في هذا القطر إلى دور الدولة التي وظّفت التاريخ لصياغة شرعية إيديولوجية تستند لها. "لقد فرضت دولة الشرفاء سيطرتها على المغرب الأقصى لأنّها قامت على دعوة الشرف" (أي الانتساب إلى ذرية الرسول والعرب) لإقرار نفوذها على المجتمع، ولا نخطئ إذا قلنا أن المؤرخين المغاربة بتدوينهم أخبار الملوك الشرفاء -السعديين أو العلويين أو الاثنين معا- وضعوا أسس الشرعية الشرفية التي أقرت استمرار السلطة في المغرب الأقصى .

وفي الجزائر لم يظهر الاتجاه إلى صياغة الشرعية الإيديولوجية إلا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. خلاله، كانت المؤسسة السياسية في الجزائر تعاني من أزمة حادّة بفعل عوامل ترتبط بالوضع الدولي العام من ناحية وبالمقاومة العنيفة التي قادتها الطرق الصوفية من ناحية أخرى. وخوفا من تفاقم الأزمة السياسية، لجأت الأقلّية العسكرية الحاكمة إلى إجراء تقارب بينها وبين المجتمع. في السابق، كان الحكم في الجزائر "إنما هو سلطان ورعية" إذ ظلّ الأتراك طبقة مميّزة منعزلة عن الرعية اجتماعيـــــــا ومحتفظة بسماتها الرئيسية المميزة لها من عادات وتقاليد وأحكام، وكانت تستأثر بالحكم وتوجّه الإدارة في البلاد بوصفها القوة العسكرية الممتازة، مما جعلها تنظر إلى الأهالي على أنّهم أقلّ منها منزلة وقدرا. وتغيّرت الأوضاع بسبب الضعف الذي دبّ في المؤسسة العثمانية فبدا التقارب بين الأرستقراطية العسكرية التركية والأهالي، واتخذ ذلك التقارب شكلين مميزين:

الأول: إثني، يتمثّل في ترقية فئة الكراغلة4 ترقية سياسية واضحة إذ بدأ هؤلاء يشغلون لأول مرة وظائف سامية في جهاز الإدارة والجيش (محمد بن عثمان- باي وهران، وأحمد باي قسنطينة(.

والثاني: طبقي، يتمثّل في التحالف القائم بين الأرستقراطية القبلية والسلطة. فتحوّلت الأرستقراطية القبلية من أعيان القبائل تدريجيا إلى سند تعتمد عليه المؤسسة العثمانية في بسط نفوذها على القبائل والمقاطعات. في ظلّ هذا الاتجاه إلى التقارب والاندماج الاجتماعي، ظهرت الحاجة لدى السلطة الحاكمة إلى تجنيد المثقفين لصياغة شرعية تقرّ وجودها وتبرّر نفوذها على المجتمع .وارتبطت صياغة هذه الشرعية بحدث هام تمثّل في فتح وهران على يد الباي أحمد بن عثمان، غير أنّ بعض الباحثين قد أخطأوا حين عزوا إحياء التدوين التاريخي إلى هذا الحدث التاريخي وحده. في الواقع كان الاهتمام بالتاريخ مرتبطا بحاجة المؤسّسة العثمانية إلى كسب الشرعية.

المؤرخ والـسلطة

منذ القرن الثامن عشره ظهر عدد هام من التآليف التاريخية5، وكان قاسمها المشترك تمجيد السلطة العثمانية ..."وقد أردت أن نذكر منه نبذة أخدم بها حضرة قامع المُبغِضين ومدوّخ المارقين، من جُمِع لـه خصال الشرف والمجد وموجات الشكر والحمد، محلّ الجلال والعظمة والجود، المخصوص بنصر الآراء والبنون ..."
(ابن هطّال، ص. 36). إن غالبية هذه التآليف كتبها فقهاء كانوا في خدمة باي وهران، وقد عكف هؤلاء على بناء دعوة شرعية تستمد مبادئها من الفكر السياسي الإسلامي المتأخر، واعتنى الباي محمد الكبير بنفسه بهذا المشروع.

وفي عصر انحصر فيه الإبداع وتراجع فيه الاجتهاد العقلي، كان ضروريا أن يلجأ هؤلاء المثقّفون إلى النقول والسلف للدفاع عن شرعية السلطة التركية، فالكاتب ابن زرقة وضع كتابا عنونه "الاكتفاء في جوائز الأمراء والحلفاء" (سعد الله، 1981، ص. 361) جمع فيه نصوصا فقهية قديمة للردّ على الطرق الصوفية التي كانت تقاوم الحكم العثماني. تتجلى أهمية هذا المخطوط في أنه مرجع يستفيد منه المؤرخون في وضع الحجج وبناء البراهين لإسقاط دعوة المعارضين للسلطة العثمانية، ومع ذلك فإن ابن زرقة والمؤرخين لم يصرحوا أنّهم يصوغون نظرية متكاملة في الدولة، لكن عدم التصريح لا يعني غياب المشروع. فالقضايا الأساسية غالبا ما تأتي في تآليفهم مغلّفة في أغلفة فقهية.

المؤرخون والفقهبناء الشرعية الفقهية

اتجه مؤرّخو القرن الثامن عشر في الجزائر إلى الفقه لصياغة الشرعية السياسية التي كانوا ينشدونها. إنّ هذا الموقف في حد ذاته منطقي لأنّهم، في الأساس، فقهاء تكوينا وفكرا. إن المتتبّع لتطوّر الفكر السياسي الإسلامي يلاحظ تخلّي الفقهاء المتأخرين عن مفهوم الخلافة، ويتّضح هذا التخلّي جليّا عند سقوط الخلافة العباسية، يقول الغزالي: "إنّنا نراعي الصّفات والشروط في السلاطين تشوقا إلى مزايا المصالح، ولوقضينا ببطلان الولايات الآن لبطلت المصالح" (الغزالي، ص. 502). إنّ هذا التعليل واضح لأنه يبيّن ضرورة التكيف مع الواقع. تخلّی الفقهاء المتأخّرون عن مفهوم الخلافة وأقرّوا شرعية "إمارة الاستيلاء" لأنّ هذا الشكل السياسي فرضه التاريخ عليهم فرضاً. ويشرح ابن تيمية سبب إهمال الفقهاء لمسألة الخلافة قائلا: "إن الفقيه، وهو بالتعريف من يتوق إلى تطبيق الشرع على الواقع، لا يرجع في أحكامه إلى آماله بل إلى الظروف المحيطة به" (العروي، 1981، ص. 101) ويعلّل ابن قيّم الجوزية هذا التباعد بين مفهوم الخلافة ومفهوم الدولة: "إنّ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها وحكمة كلها" (العروي، 1981، ص. 101). وما دمنا نتحدث عن الدولة في الإسلام، فلا بد من الرجوع إلى ابن خلدون وتأتي أهمية هذا المفكر من كونه ينتصب في ملتقى الاتجاهات الفقهية والفلسفية والتاريخية، وحسب هذه الاتجاهات يميز ابن خلدون بين ثلاثة أنظمة:

  • الملك الطبيعي: وهو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة.
  • الملك السياسي: وهو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في المصالح الدنيوية.
  • وعند الحديث عن الخلافة -النظام الثالث- يعترف ابن خلدون أنّ هذا النظام "لا يكون إلا بمعجزة" بحكم تعارضه مع الواقع إذ أنّ تاريخ الإسلام يتضمّن خرقا وانقطاعا" (ابن خلدون، ص. 369).

يعني كلام ابن خلدون أن الخلافة مشروع سياسي يتعارض مع الواقع، ولذلك أهمله الفقهاء وأصبح الشرع في منظورهم مرادفا للعدل والقانون .وأصبحت وظيفة الفقيه النظر في الواقع والتشريع له وليس العكس. إنّ هذه الاشكالية الفقهية تمثّل الإطار النظري الذي انطلق منه الفقهاء في الحكم على المؤسسة العثمانية في الجزائر.

شرعية المؤسسة العثمانية في الجزائر

ما هو مضمون الشرعية الفقهية التي وضعها المؤرخون للدفاع عن السلطة المركزية؟

قبل الاجابة على هذا السؤال ، يجب الإشارة إلى أنّ المؤرخين لم يتخذوا الفقه وحده منطلقا لهم بل حاولوا التوفيق بين الفقه والواقع. كما أنّ موقفهم كان يتجه إلى تبرير المؤسسة العثمانية وليس الحكام من بايات ودايات. فان كتبهم تحفل بالنقد للحكام الضعفاء والمستبدين الذين يتّسمون بالعنف والقساوة في تعاملهم مع الرعية6.

لم يتقرّب العلماء من السلطة رغبة في الكسب والارتزاق، فغالبيتهم مات فقيرا أو على الأقل ظل الفقر يهدده. لقد كان موقفهم من السلطة يرتبط بمفهومهم للسياسي، فالمؤسسة السياسية في الجزائر تتوفر على الشروط التي تحدّدها السياسة الشرعية، وتتمثل هذه الشروط في: الجهاد والرياسة القوية والعدل.

الجـــهــــاد

يعني الجهاد بالمفهوم الفقهي توفير الأمن والسلام. إنه واجــب السلطة والجماعة، ضروري، به تقوم الشريعة سياسة وعبادة. ويحظى الجهاد عند الفقهاء بعناية قصوى لأنّه يحقّق تفوّق الشريعة، والتلاحم بين السلطة والجماعة. يعلن العلماء ارتباطهم بالسلطة التركية لأنها أقامت الجهاد وسهرت على حماية البلاد من الاعتداءات الأجنبية وقاومت الفتن. بالجهاد عاد الأمن الى البلاد واستقرت الجماعة وظهر الحق من الباطل "فانقطعت المفاسد من الأرض وبادت الأحزاب .. وظهر دين الإسلام الذي هو خير كله..." (ابن سحنون، 1973، ص. 110(. بالجهاد -كذلك- ركدت رياح الفتن وشُلّت أيدي العداة "الجهاد هو الجامع للأمة ومُنقذها من التفرقة" (ابن سحنون، 1973، ص. 73( يتبيّن من هذا التعليل أن المؤرّخين قد ساندوا حملات السلطة على القبائل الثائرة أو المنشقة لأنّ ذلك، في نظرهم، من قبيل الجهاد. لقد أرّخوا للحملات العسكرية لأنها كانت ترمي إلى ردّ الاعتبار للسلطة المركزية: رمز كل وحدة سياسية. إنّ "العالِم" مثل "السياسي" يريد إثبات الحضور الدائم للمركز بقصد جمع الشتات وتوحيد البلاد.

قد يستغرب المرء مساندة معظم المؤرّخين للحكم العثماني الذي شنّ حملات عسكرية رهيبة ضد الطرق الصوفية (درقاوة والتيجانية) لكن الأمر يصير منطقيا اذا اعتبرنا أنّ العلماء يعارضون التصدّع العقائدي مثلما يعارضون التشتّت السياسي، ويعني التصدّع العقائدي ضرب وحدة السلطة والجماعة7. فالجهاد كما يؤكد ابن سحنون (1973، ص. 110): أصل كل خير وأساس كل نعمة إسلامية. ويتخذ الجهاد أبعاده الأخرى حين تكون "دار الاسلام" في خطر. فيتوجّب على الدولة حماية الثغور واسترجاع ما استولى عليه الأجانب. لذا انتصر العلماء للأتراك الذين حَمَوا البلاد ودافعوا عن ثغورها.

الرئاسة القـوية

إن العلاج الحقيقي لخراب البلاد هو إنشاء رئاسة قوية تكون قادرة على تحقيق الوحدة السياسية الضرورية. لقد رأى المؤرّخون في باي الغرب: محمد الكبير، الأمير القوي القادر على تحقيق سيادة السلطة. إنه المجاهد الذي حرّر وهران والمرسى الكبير -آخر معقل للإسبان- على أرض المغرب الأوسط ، إنّه السياسي الذي أخضع القبائل وأمّـن الطرق والتجارة وحمى العلم والعلماء، والباني الذي خطّط للمدارس والمساجد. "فنقّی إیّالته من المخاوف حتى صارت مستراحا للقوافل والسفار"، "... ونسخت أسماء القبائل البربرية في جميع المغرب الأوسط فلا هوارة ولا مغراوة وصار الجميع مشتركا في اسم القبائل. ..".

يقترن الأمير القوي بنموذج الرجل السياسي الذي تحلم به الأرستقراطية التقليدية لأنها تحتاج إلى من يحمي مصالحها الاقتصادية ومكانتها الاجتماعية، فالأرستقراطية المغربية تتخذ من التجارة مصدر الكسب والثراء، ولا تتحقّق تجارتها إلاّ بتأمين الطرق التجارية وحماية القوافل من النهب الذي قد تتعرض له في ظلّ سلطة ضعيفة. أما العلماء فقد عافت نفوسهم شرّ ضعف السلطة والفوضــــى التي تنجم عنها لأنّ الشريعة لا تتحقق سيادتها إلاّ في ظلّ سلطة قوية قادرة على إقرار الأمن والقضاء على الفتن وإبادة الأحزاب. يتضح هذا المعنى عند المؤرخ مسلم بن عبد القادر الذي اعتبر حركة درقاوة فساد " ان النصر معنا لا علينا نريد الإصلاح وهم (درقاوة) يريدون الفساد"
)بن عبد القادر، 1974، ص. 82(، ووصف ابن سحنون ثورات القبائل على أنّها تمرد على الشريعة والسلطة معا، "والأحرار الأعراب لا يؤدّون خراجا ولا ينضيئون للحق سراجا .... يتغلّبون على الشريعة ويقطعون لمن ناوأهم ذريعة…" (ابن سحنون، 1973، ص. 71). 

العـدل

إن العدل -في نظر الفقهاء- شرط من شروط السياسة الشرعية ولا يعني العدل عدالة اجتماعية كما نفهمها نحن إنّما يعني التوسّط والاقتصاد في التصرّف وإظهار التوازن بين مصالح الخاصة والعامة.

فالعدل يضمن تماسك الجماعة ووحدة الأمة، يؤكد ابن سحنون هذا المعنى حين يربط بين محبة الناس ومحبة الإله قائلا: "إن العدل هو الحكم بمقتضى الشريعة لا لهوى نفسي ومن العدل تنشأ محبة الناس ومحبة الناس دالة على محبة الله تعالى". ويتخذ العدل مفهوما أخلاقيا فالامام العادل في نظر العلماء هو الإمام الذي يتحلّى بمكارم الأخلاق، فيظهر الرحمة والشفقة على الفقراء في أوقات الحاجة، ويرعى العلم والعلماء ويُنصف في شؤون العامة والخاصة. إنّ هذه الخصال رآها المؤرّخون في شخص الباي محمد الكبير "وقد شاع منه ما يُغني في الأخبار ..."، "وكم من تأليف نشأ بأمره وونال مؤلفه به افریره.." )ابن سحنون، 1973، ص. 71(1، وينوّه كل من ابن زرقة وأبوراس بمحمد الكبير لأنهما يريان فيه نموذج الأمير العادل.

إنّ الأمير العادل يرمز إلى النموذج الأمثل في سياسة الجماعة، فهو يحقق تلاحم السلطة والشريعة ويجسّد تحالف السيف (الرجل العسكري) والقلم (رجل العلم). إن القوة وحدها لا تكفي في سياسة الجماعة بل تحتاج إلى العلم - الشريعة - لتحقيق استقرار السلطة والجماعة معا. يؤكد محمد بن الميمون معنى هذا التحالف حين توجه إلى الدالي محمد بكداش قائلا هذين البيتين:

يا أيها الملك الذي نرجـــــو بــه عدلا ينوط بذي الغتا الفقير

إني نصحتك والنصيحة ديننا فأقبل ولم ينصحك دون خبير

مفهوم التـــاريخ

في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ظهر عدد من العلماء حملوا على عاتقهم مهمة إحياء التاريخ، وقد بيّن رائدهم أبوراس المعسكري ضرورة العناية بعلم التاريخ قائلا: "إنّ البحث من علم التاريخ ممن تقدّم شأن الأدباء الأفاضل من أولي بصيرته...". وقد أعتنى به أهل كل طبقة وجهابذة كلّ ملّة من صلحاء السلف وحذّاق الخلف ...
في كل عصر عصابة هم أهل إصابة فألّفوا وأفادوا وصنّفوا وأجادوا... )ابن سحنون، 1973، ص. (69، ومن المدافعين عن علم التاريخ، محمد بن هطال الذي اعتبره أجلّ العلوم قدرا وأكملها محاسن وفخرا. )ابن الميمون، 1972، ص. (209يؤكّد الورثلاني -رغم تصوفه- قيمة التاريخ: "فإنّ علم التاريخ منة جزيلة ومعرفة أخبار العلماء منقية جليلة"، ثم يبيّن فضله ويدعّم رأيه بآيات قرآنية وأحاديث نبوية تحثّ على دراسة التاريخ "فمرتبة العلماء تزيد أو تنقص بقدر معرفتهم للتاريخ."8 ويحذو ابن سحنون حذو هؤلاء العلماء، فيرى أنّ العالم لا تكتمل فيه صفة العلم ما لم يحط بالتاريخ ويكتب فيه على بيّنة مصحّحا أعماله بشرط الاعتماد على النقول الصحيحة والكتب السليمة .

لا حاجة إلى إثقال النص بأقوال مؤرّخين آخرين عن أهمية التاريخ، فالمهمّ أن نلقي نظرة تمحّص حول مفهوم التاريخ كما يتجلى في كتبهم. فإن أبعدنا السير التي خصّصت لمناقب الأولياء فإنّ الكتب التاريخية الأخرى على اختلاف أنواعها (تاريخ محلّي، رحلات، تراجم الملوك والأمراء .....) تحتوي على مفهوم واضح لعلم التاريخ .لا نعتقد أنّ المناقب تحتوي على بصيرة تاريخية لأنّ أصحابها كانوا من المتصوّفة يكتبون سير شيوخهم للتبرّك والعبادة. إنّهم يعتقدون أن الفعل التاريخي تتحكّم فيه قوى غيبية مستقلة عن الطبيعة. فالمناقب لا تحتوي على إدراك تاريخي، رغم قيمتها الاجتماعية والثقافية، لأنّ التاريخ في مفهوم أصحابها يقع خارج الإنسان والطبيعة، وحركته لا تخضع للزمان والمكان.

أمّا التاريخ في مفهوم المؤرخين المرتبطين بالدولة فيختلف عن مفهوم مؤلّفي المناقب المرتبطين بالزوايا والطرق الصوفية. فالكتابة التاريخية في نظر المتصوفة عبادة وتبرك في الوقت الذي يعتبرها المؤرّخون ممارسة فكرية وعقلية. إنّ الفرق واضح بين الاتجاهين ولا يحتاج إلى تمحيص. لقد وضع المؤرّخون مقدّمات خصّصوها لشرح معنى التاريخ وفوائده العامة. وما يلفت النظر أنّ هذه الشروح تمثّل في معظمها نقولا عن المصادر التاريخية السابقة كابن خلدون وابن الأثير والمسعودي وغيرهم، لكنّها ليست مجازات أدبية لأنّ أصحابها دوّنوها لتأكيد استمرار المفهوم الإسلامي للتاريخ ودوامه عبر العصور.

فالتاريخ في نظر مؤرخي القرن الثامن عشر علم من العلوم الدنيوية يجب استحسانه لأنّ فوائده كثيرة وعامة. فالاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية تؤكّد صحة هذه الفوائد، ولا يمكن اعتباره، كما فهمه بعض المؤرّخين، دليلا على أنّ التاريخ كالحديث يمثّل فرعا من العلوم الشرعية، فالحديث أفاد التاريخ من الناحية المنهجية لكنّه لم يفده من الناحية النظرية .

يمكن تلخيص فوائد التاريخ فيما يلي :

إن الغاية من التاريخ اكتساب تجارب السلف والأولين لفهم أفضلَ لسنن الكون والطبيعة. ففي قراءة التاريخ تهذيب للأخلاق وسعي وراء مكارم الأخلاق والشيم (ابن هطال، 1969، ص. 35)، وأفصح كل من ابن الميمون وابن سحنون عن فائدة الإحاطة بالتاريخ وذكر أخباره، فاعتبر غايته النصيحة للملوك والأمراء والعظماء.

فالملوك اذ وفقت على سير أهل الجور والعدوان ورأوها مدوّنة في الكتب، يتناقلها الناس ونظروا إلى ما أعقبت من سوء الذكر وخراب البلاد والعباد... استقبحوها وأعرضوا عنها ويستخلص المؤرّخون حججا أخرى من البيئة التي يعيشون فيها.

فالأحداث الخطيرة التي شهدها المغرب الاوسط (كفتح وهران) من شأنها أن تحرّك عزيمة العلماء وتدفعهم إلى تدوين تاریخ بلادهم لمقاومة اليأس والتواكل. يتّضح ذلك في قول أبي راس المعسكري: " تحركت العزائم وتحدثت الغاية بسبب ما أنعم الله به على المسلمين عامة وأهل المغرب الأوسط خاصة"9. وفي قول ابن سحنون ما يؤكد وعيه الإسلامي الشديد: "الغيرة على بلد المسلمين والإسلام أن تعمرها الأصنام، والحرّ يغار على حُرمة الإسلام أشدّ مما يغار على العيال" (ابن هطال، 1969، ص. 36). إنّ الإنسان يتجاوز الأطر القصصية لأنه يحب البقاء ويشعر أنه يحقّق رسالة تميّزه على الكائنات الأخرى، إنّ التاريخ يحقّق الحكمة ... ولا تتحقّق الحكمة المنشودة إلاّ بالتساؤل والبحث عن الحق .ولا يتحقق التساؤل والبحث إلاّ بامتلاك الماضي واحتوائه واستخراج قوانینه في شكل عِبَر يسير على هديها الإنسان فالحق والحكمة، عند المؤرخين، يصدران عن التاريخ، وفي سعيه الدائم وراء الحكمة، يحقّق الإنسان عبر التاريخ إنسانيته (ابن سحنون، 1973، ص. 206).

قــائــــمة المـــصــادر

المصادر

أبوراس المعسكري، عجائب الاسفار ولطائف الاخبار في وقائع وهــــران. المكتبة الوطنية – رقم 1633.

ابن سحنون الراشدي، (1973). الثغر الجماني في انتسام الثغر الوهراني - تحقيق البوعبدلي قسنطينة.

أحمد بن هطال، (1969). رحلة محمد الكبير إلى الجنوب. تحقيق محمد بن عبد الكريم القاهرة.

مسلم بن عبد القادر، (1974). أنيس الغريب والمسافر في طرائف الحكايات والنوادر. تحقیق رابح بونار. الجزائر.

محمد بن میمون، (1972). التحفة المرضية في الدولة البكداشية. تحقيق محمد بن عبد الكريم. الجزائر.

الحسين الورثلاني، نزهة الانظار في فضل علم التاريخ والاخبار. المكتبة الوطنية رقم 597.

المراجع

ليفي بروفنسال، (1977). مؤرخو الشرفاء. تعريب الخلادي. الرباط.

نور الدين عبد القادر، (1964). صفحات من تاريخ مدينة الجزائر. الجزائر.

أبو القاسم سعد الله، (1981). تاريخ الجزائر الثقافيجزءان. دار الغرب الإسلامي: الجزائر.

محمد أنيس، (1962). مدرسة التاريخ في مصر خلال العصر العثماني. القاهرة.

 :الهوامش

عبد الله العروي، (1981). مفهوم الدولة. الدار البيضاء.

1. أبوراس المعسكري، عجائب الاسفار مخطوط.

2. الحسين الورثلاني، نزهة الأنظار (مخطوط).

3. دلفان، انظر مجلة جمعية الجغرافيا لوهران سنة 1888.

4. الكراغلة، هم الأشخاص المنحدرون من أب تركي وأم جزائرية.

5. تذكر على سبيل المثال: أبوراس، عجائب الاسفار، أحمد بن سحنون: الثغر الجماني، ومحمد بن زرقة: الرحلة القمرية، ومسلم بن عبد القادر: أنيس الغريب، ومحمد بن يوسف: دليل الحيران، وحسن خوجة: دار الأعيان، وأحمد بن هطال: رحلة، والمشرفي: بهجة الناظر، وابن رقية: الزهرة النيرة.

6. كان أحمد بن سحنون يظهر عداءه للباي "بوشلاغم" بسبب قساوته. كما أنّ مسلم بن عبد القادر يحمّل مسؤولية انهيار الحكم العثماني على عاتق الأمراء الضعفاء وكذلك فعل ابن الزيان وغیره ... .

7. قاوم العلماء الطرق الصوفية بحكم تكوينهم الفقهي السني، فابن هطال مات قتيلا في معركة وادي الأبطال التي انتصرت فيها درقاوة على الجيش التركي، وقد کتب أبوراس کتابا عن ثورة درقاوة سماه "دار الشقاوة في فتنة درقاوة" يقول فيه: "ثم عمتنا ثورة درقاوة فاتصلت علينا أوامر النكبات والبليّات من الخوف والجوع والروع الذي في الفؤاد مودوع" (عجائب الأسفار).

8. عجائب الأسفار… مخطوط.

9. الحسين الورثلاني: نزهة الانظار

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran

95 06 62 41 213+
03 07 62 41 213+
05 07 62 41 213+
11 07 62 41 213+

98 06 62 41 213+
04 07 62 41 213+

Recherche